الكون
يشهد لله بصفاته
النور الهادى
يقول تعالى {اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن
شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ
وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ
نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وا َللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلَيِمٌ} النور :35
قال بن عباس فى تفسير هذه الآية
الكريمة : الله هو هادى السماوات و الأرض ، و قال أنس بن
مالك رضى الله عنه إن الله تعالى يقول فى الحديث القدسى
( نورى هداى )
فنحن بنور الله تعالى اهتدينا و
بنوره أصبحنا و أمسينا .. و الله يهدى لنوره من يشاء من
عباده
و الرسول صلى الله عليه وسلم قال فى
دعائه يوم أوذى من أهل الطائف ( أعوذ بنور وجهك الذى
أشرقت له ظلمات السماوات و الأرض و صلح عليه أمر الدنيا
و الآخرة أن يحل بى غضبك أو ينزل بى سخطك ، لك العتبى
حتى ترضى و لا حول و لا قوة إلا بك ) ... فنحن لا سبيل
لهدايتنا إلا بنور من الله ليصلح عليه أمر دنيانا و
آخرتنا
.
و الله سبحانه خلق ثم هدى .. خلق
الكون ثم نورٌه
و الهداية هى الدلالة على الطريق و
هى أيضا ً المعونة عليه ، فقد تسأل شخصاً ما عن مكان ما
فيدلك على الإتجاه و الطريق له .. فهذا يدلك على الطريق
، و قد يزيدك دلالة فيقول لك إني أنصحك بألا تسير من هنا
لأنه طريق محفوف بالمخاطر و الأفضل هو أن تأخذ هذا
الطريق الآمن .. فهو بذلك لم يدلك فحسب بل يكون قد أعانك
على الطريق أيضاً ... و لله المثل الأعلى من قبل و من
بعد .. فالله تعالى يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم
(1)
و لقد أجمع العلماء على أن الهداية
الإلهية أربعة أنواع :-
أولاً
: هداية جبلية
قال تعالى {وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَىٰ}
الأعلى : 3 ، فالله سبحانه خلق لنا الحواس مثل السمع و
البصر و الشم و اللمس و التذوق لنهتدي بها ، و جعل لشتى
المخلوقات وسائل و اساليب حياه تهتدي به إلي معيشتها و
تكاثرها و لنعطي عدة أمثلة عل ذلك :-
-
الإنسان لا يتمكن من الإبصار في
الظلام الدامس و لكنه لو كان على ظهر حصانه فإنه يمكن
أن يصل إلى منزله بسلام ، ذلك أن الحصان مكنه الله
تعالى من الرؤية فى الظلام الدامس عن طريق ملاحظة
الإختلاف في درجات الحرارة على جانبي الطريق بعينين
تأثرتا قليلاً بالأشعة الحمراء فى الطريق ، كذلك
تبصر البومة الفأر الدافيء و هو يجري مهما كانت ظلمة
الليل .
-
مكن الله سبحانه و تعالى الخفاش من
أن يصدر ذبذبات عالية تقارب 100.000 ذ/ث بحيث أنها إذا
اصطدمت بشيء عادت جميعها إلى سمعه فأدرك أن هناك شيء
أمامه ، فينعطف عنه بسرعة و لا يصطدم به .
-
و سبحان هادي صغار ثعابين الماء
بعد خروجها من البيض و هى لا تملك أى وسيلة للتعرف على
ما حولها ، و رغم ذلك فإنها تسلك نفس الطريق الذى
سلكته أمهاتها من قبل حين قطعت آلاف الأميال فى المحيط
قاصدة الأعماق السحيقة لتبيض هناك ثم تموت ، فاليوم
تسلك الصغار نفس الطريق و لكن في الإتجاه العكسى و
تقاوم كل التيارات القوية في المحيط و المسافات
الطويلة ثم تتوزع على كل نهر أو بحيرة أو حتى بركة
صغيرة كانت الموطن الأصلى لأمهاتها و ذلك حتى يظل كل
جزء من الماء آهلاً بسكانه الأصليين ... فمن هداها
لهذا ؟ ..... سبحان الله الهادي
-
فى دراسة علمية فى ولاية إنجلاند
الأمريكية لموسم التكاثر عند الجراد و جدوا أن الجراد
يعيش في ظلام دامس في شقوق تحت الأرض طيلة سبعة عشر
عاماً ثم يظهر فجأة بالملايين في شهر مايو و يضبط
موعد ظهوره هذا باليوم تقريبا لتهاجر أسراب الجراد فى
جماعات فى يوم واحد تقريبا
-
تذهب النحلة الشغالة إلى خلية
النحل بعد أن أتت برحيق الأزهار فتؤدي حركات أيقاعية
معينة باتجاه زاوية معينة للشمس يفهمها بقية النحل
الذي فى الخلية و عليه يعرف مكان الأزهار التي جاءت
بالرحيق منها .. و احتار العلماء في فك رموز هذه
الشفرة الحركية حتى الآن ... فمن علمها هذا .. لكنه
الله الذى خلق فقدر فهدى
-
و لو تأملنا طريقة بناء الطائر
الصغير لعشه لتساءلنا من الذى علمه هذا الإتقان ، بل و
من هدى طيور النوع الواحد لبناء أعشاشها بنفس الطريقة
... و كذلك كيف يشيد العنكبوت عملاً هندسياً باهراً
تتعجب من متانة صنعه بالرغم من رقته مراعياً المسافات
البينية و انفراج الزوايا فى الشكل الهندسي(2)
-
خلق الله سبحانه و تعالى لكائنات
عديدة وسائل دفاعية تمكنها من الدفاع عن نفسها أو حتى
من تضليل أعدائها حتى تستطيع العيش بسلام
ثانياً : هداية إرشادية
تكون عن طريق الأنبياء و الرسل ، فهم
عليهم السلام جاءوا جميعهم لهداية الناس إلى الطريق
المستقيم ، يقول تعالى }
وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ
إِلَىٰ
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} و ذلك بتبليغهم رسالة الله و
ارشادهم على طريق الخير و الحق الذى يصل بهم إلى رضوان
الله عز و جل ليكون جزاؤهم الجنة وكذلك بتحذيرهم من
النار ... أما بعد رسالة خاتم الأنبياء و المرسلين سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم ، كلفت أمته بأن تقوم بهداية
الناس إلى طريق الإسلام أى تبلغهم و تبين لهم ما جاء به
الإسلام و إذا لم نفعل ذلك فإننا نحاسب عليه (1)
فعلينا أن نتذكر دائماً قول المصطفى
صلى الله عليه وسلم " لإن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير
لك من الدنيا و ما فيها "
ثالثاً : هداية توفيقية أو هداية
معونة
أما هذه الهداية فهى وعد من الله
تعالى لمن قبلوا بالهداية الإرشادية بأن يزيدهم الله عز
و جل هدى و فى هذا يقول عز من قائل {وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ}
محمد:17 ، و كذلك يقول عن أصحاب الكهف {نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ
آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} الكهف:13
فهى هداية تثبيت على الطاعة فيقول
تعالى }
ٰيأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوۤاْ
إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ} محمد:7 ، و يقول سبحانه}
و ربطنا على قلوبهم
{ فلا يخرج
الإيمان من قلوبهم لأن القلب يتقلب و لهذا كان من دعاء
سيد الخلق و إمام المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم ( اللهم يا مقلب القلوب و الأبصار ثبت قلبي عى دينك
)
وهذه الهداية تختلف عن الهداية
الإرشادية لأن الله تعالى يقول لرسوله الكريم صلى الله
عليه وسلم
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} القصص: 56
فالرسول صلى الله عليه وسلم عليه
البلاغ .. فمن قبل و شاء الهدى أعانه الله تعالى على ذلك
و أضاء له طريق الإيمان حتى يزين الإيمان فى قلبه خطوة
بخطوة }
نُّورٌ عَلَىٰ
نُورٍ {
، فيكون هدى الله تعالى فى قلب المؤمن
} كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن
شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ
وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار {
فكأن قلب المؤمن فى صفائه كالقنديل من الزجاج الشفاف
الجوهرى ، و كأن ما يستهديه من القرآن و الشرع كالزيت
المبارك الصافى المشرق المعتدل الذى لا كدر فيه ... {
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا
مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ
وَلَـٰكِن
جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ
عِبَادِنَا } من الآية 52 من سورة الشورى
أليس هذا خيراً و أفضل ممن يعيش فى
ظلمات الضلالة و التى شبهها المولى جل و علا بظلمات
البحر العميق فقال عز من قائل {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ
مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ
بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ
مِن نُورٍ} النور: 40
فالظلمات التى يعيش بها الكافر..
ظلمة سمعه .. و ظلمة بصره .. و ظلمة قلبه .. بعضها فوق
بعض تماماً كظلمات البحر العميق ، ففى عام 1955 م اكتشف
العلماء أن فى البحار أمواجاً عميقة على عمق حوالى 1000
م ، و أن هذه الأمواج تفوق كل الأمواج السطحية بمئات
المرات فى طول الموجة و ارتفاعها ، و أن هذه الأمواج
كذلك تحدث ظلمة كاملة فى أعماق البحار و المحيطات لأنها
تعكس أى ضوء قد يصلها و تمنع نفاذه لأعمق من ذلك ، و
وجدوا أيضا ً أنها فى معظم الأحيان تكون متجهة باتجاه
عكسى لاتجاه الأمواج السطحية ... و السؤال هنا هو كيف
تحدث هذه الظلمات ؟
و لشرح هذا نقول بأن جزءاً من ضوء
الشمس الساقط على الأرض تعكسه الأمواج السطحية ، ثم ينفذ
جزء آخر صغير منه إلى داخل المياه فيتحلل هذا الضوء داخل
المياه إلى أطيافه السبعة وهى : " أحمر، برتقالى ، أصفر
، أخضر ، أزرق ، نيلى ، بنفسجى " و كلما إتجهنا باتجاه
قاع البحر أو المحيط يبدأ الماء فىامتصاص هذه الأطياف
الواحدة تلو الأخرى و أول ما يمتص هو اللون الأحمر على
عمق حوالى 10 م، فاذا ما أصيب غواص و سال دمه على هذا
العمق فانه لا يستطيع أن يرى دمه باللون الأحمر و لكن
يراه أسوداً لأن الطيف الأحمر يكون قد أمتص بالكامل ، ثم
على عمق 30 م من سطح البحر يتم امتصاص اللون البرتقالى و
لا يرى .. فيصبح ظلام البرتقالى فوق ظلام الأحمر ، ثم
على عمق 50 م يمتص اللون الأصفر لتتكون طبقة ظلام ثالثة
.. و هكذا أيضا يتم امتصاص اللون الأخضر على مسافة 100
م و تظل هذه الأطياف تمتص بالتدريج حتى يبقى الطيف
الأزرق و هو أكثرها استمرارية و لذا يبدو البحر باللون
الأزرق .. و على عمق 200 م من سطح البحر يتم امتصاص
اللون الأزرق ، حتى نصل إلى عمق 500م عندها تختفى كل
الألوان بحيث لا يرى لون للشىء إلا باللون الأسود فيبدو
كالظل و لهذا قال المولى عز و جل ( لم يكد يراها )
فالرؤية لا تنعدم تماما و لكن الشىء يرى كالظل !
(3)
و العجيب أن العلماء عندما غاصوا
بغواصاتهم إلى تلك الأعماق كانوا يتوقعون أن هذه المنطقة
من البحار و المحيطات لا توجد بها أية حياة على الإطلاق
مع ازدياد الضغط و انعدام الضوء فالغواص يحتاج إلى زى
خاص مصنوع من الحديد و إلا لانفجر من شدة الضغط فى هذه
المناطق ، إلا أنهم وجدوا أن هناك حياة تفوق الحياة التى
فى الطبقات العليا بمئات المرات ، فلقد وجدوا بعض
الكائنات زودها المولى عز وجل باضاءة ذاتية تستطيع بها
أن تهتدى و سط هذه الظلمة الشديدة
} وَمَن
لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن
نُورٍ} (4) ... فسبحان الله الهادى
رابعاً : الهداية الأخروية
أما هذه فيهدى بها الله سبحانه و
تعالى المؤمنين يوم القيامة إلى الجنة فيثبتهم على
الصراط و ينيره لهم
يقول تعالى
{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ
بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا
لَهُمْ {
محمد:5- 6
أى {سَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا
والآخرة إلى ما ينفعهم {ويُصْلِـحُ بَالَهُمْ} أى يصلح
حالهم فيهما ، }
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ } أى بينها لهم فيهتدون إلى مساكنهم
منها وأزواجهم وخدمهم من غير استدلال
و يقول عز من قائل
} يَوْمَ
لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
{
التحريم:8
فلا ينال أحد حظه من هذا النور يوم
القيامة إلا من كان نور الإيمان بالله تعالى يملأ قلبه
فى الدنيا .. و لا سبيل للهداية يومئذ وسط ظلمات يوم
القيامة إلا بنور من الله تعالى .. يقول تعالى
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا{
الزمر: 69
اللهم اجعل فى قلبى نورا و فى سمعى
نورا .. و عن يمينى نورا و عن شمالى نورا .. و من فوقى
نورا و من تحتى نورا .. و أعظم لى نورا
المصادر
1-
القضاء و القدر
للشيخ محمد متولى الشعراوى
2-
مجلة الإعجاز
العلمى العدد الحادى عشر
3-
إعجاز القرآن
للدكتور طارق السويدان
4-
صور من إعجاز
القرآن الكريم للدكتور زغلول النجار